صديقي القارئ، هل سمعت من قبل عن شخصية خيالية أصبحت أكثر واقعية من خالقها نفسه؟ في الأول من يناير عام 2023، احتفلت الأوساط الأدبية بيوم الملكية العامة، وهو اليوم الذي تحررت فيه حقوق الملكية لعدد من الشخصيات الأدبية الشهيرة لتصبح ملكًا للعالم أجمع. من بين هذه الشخصيات، برزت شخصية فريدة لم تعد ملكًا لصاحبها فحسب، بل أصبحت ملكًا للإنسانية جمعاء: إنه المحقق **شيرلوك هولمز**. إنه الشخصية الخيالية الأكثر تصويرًا على الإطلاق، حيث بلغ عدد الأفلام التي تناولته 250 فيلمًا وألف حلقة تلفزيونية. لكن قصته ليست مجرد قصة محقق عبقري، بل هي حكاية معقدة بين الخالق والمخلوق، بين السير آرثر كونان دويل وابنه الأدبي الذي حاصره وأرهقه، بل وتجاوزه في الشهرة والخلود
ميلاد العبقرية: المحقق ذو العقل الخارق
نشأ شيرلوك هولمز من خيال الكاتب العبقري السير آرثر كونان دويل. كان دويل طبيبًا موهوبًا في كتابة قصص الجريمة. أسس دويل بشيرلوك هولمز علامة تجارية جديدة ومبتكرة في عالم القصص البوليسية. يتميز هولمز بكونه محققًا فريدًا يمتلك **حسًا غير عادي للملاحظة وعقلًا رائعًا**، ويستخدم **الأساليب العلمية لحل أصعب الجرائم**.
لقد استلهم دويل شخصية هولمز في مرحلتها الأولى من أستاذه في كلية الطب، جوزيف بيل، الذي كان يتمتع بذكاء استثنائي ومهارات ملاحظة واستنتاج كانت تدهش طلابه. كان بيل يستطيع تحديد مهنة المريض ومكان إقامته وحالته الاجتماعية وتجاربه بمجرد النظر إليه. هذه الدقة والقدرة على الاستنتاج هي ما جعلت هولمز شخصية لا تُنسى.
واتسون: الرفيق الذي لا غنى عنه
ولم يكن ابتكار هولمز وحده هو العبقرية؛ فصديقه ورفيقه الوحيد، **الدكتور واتسون**، الذي كان الشاهد على مغامراته وراوي الأحداث، لا يقل ذكاءً في ابتكاره. واتسون، لحسن حظنا، ليس بذكاء شيرلوك؛ إنه أقرب إلينا. وجود واتسون كان مهمًا كـ **الوسيط المثالي بين القارئ وهولمز**، وهو الشخصية التي يستخدمها الكاتب لإظهار أفكار شيرلوك بصوت عالٍ. كما أنه ليس أعمى عن عيوب صديقه، مما يجعل هولمز يبدو كإنسان حقيقي رغم ذكائه الخارق. هذا المزيج بين المحقق شديد الذكاء وصديقه الأقل ذكاءً، هو **التركيبة السحرية التي سيطرت على القصص البوليسية** في الكتب والمسلسلات والأفلام حتى يومنا هذا.
تأثير يتجاوز الصفحات هولمز وعلم الجريمة
لم تكن تأثيرات هولمز مقتصرة على الأدب فحسب؛ بل امتدت لتلامس الواقع. فقبل ظهور هولمز، لم تكن الشرطة تستخدم العلم في كشف الجرائم. وعندما أنشأ الفرنسي إدمون لوكارد أول مختبر للطب الشرعي للشرطة في ليون عام 1910، اعتبر **مغامرات هولمز مصدر إلهام له. فالبصمات، وتتبع الآثار، واستخدام الكيمياء والسموم، وتحليل بقع الدم، كل هذه الأمور ظهرت في قصص هولمز قبل أن تستخدمها الشرطة في الواقع. لقد كان ذلك قفزة عظيمة في علم للجريمة
الجانب المظلم للعبقرية: شخصية هولمز المعقدة
شخصية شيرلوك لم تكن مثالية فمن الصفحة الأولى، يُصوَّر على أنه شخصية وقحة، قاسٍ مع من حوله، ولا يمتلك تعاطفًا مع الناس. ذكاؤه بلا حدود، لكنه مهووس بحل الجرائم ولا يبالي بأي شيء آخر. وعندما لا يجد ما يتحدى عقله، كانت هوايته الوحيدة هي تعاطي الكوكايين إلى حد الإدمان. هذه التركيبة تجعلنا نكن له مشاعر معقدة؛ نراه أذكى منا، ولكن ليس أعلى منا. نحترم ذكاءه ونتعاطف معه في الوقت ذاته، لأنه يعي ذكاءه وموهبته ولكنه يعاني بسببهما.
معركة الخالق مع المخلوق: دويل وهولمز
لقد أدى النجاح غير المتوقع لهولمز إلى تعطيل طموحات دويل الأدبية. فدويل كان يعتبر هولمز مجرد بطل للأدب الرخيص، يكتبه من أجل المال حتى يتمكن لاحقًا من التركيز على رواياته التاريخية العظيمة التي كانت حلمه. لكن رواياته التاريخية قوبلت ببرود من الجمهور الذي أراد قصص شيرلوك. شعر دويل أن رسائله كانت تصل إلى هولمز وليس إليه، وشعر بأن هولمز أصبح أكثر واقعية منه. عندها، ولأول مرة، ظهرت فكرة قتل دويل لهولمز.
لقد قرر دويل قتل هولمز ليتخلص من هذا العبء، قائلاً: "قررت أن أدفنه، حتى لو دفنت حسابي البنكي معه". فابتكر له عدوًا عظيمًا، موريارتي، لورد الجريمة والعبقري الشرير. وفي ديسمبر 1893، نشر دويل قصة "المشكلة الأخيرة" حيث سقط هولمز وموريارتي متشابكين في شلالات رايشنباخ، وكأنهما اتحاد للضوء والظلام، في مشهد أصبح خالدًا.
لقد ذبح دويل "الدجاجة التي تبيض ذهبًا"، وشعر بالراحة والحرية أخيرًا. لكن القراء لم يصدقوا موت هولمز. ألغى 20 ألف قارئ اشتراكاتهم في المجلة، وهبطت المبيعات بشكل حاد. رغم إصرار دويل على عدم إعادته، إلا أن الضغوط المادية وتراجع رواياته التاريخية جعلاه يرضخ.
عاد هولمز في مغامرة "كلب آل باسكرفيل"، ثم عاد من الموت بشكل كامل عام 1903، موضحًا أنه لم يسقط في الشلالات أصلاً، بل أنقذ نفسه بحركة مصارعة يابانية. ليبرر غيابه، اخترع دويل لهولمز مغامرات متعددة حيث زيف موته وغير هويته.
إرث خالد: المحقق الذي لا يموت
لقد خسر دويل معركته مع شيرلوك، فلقد كان مجرد إنسان فانٍ، بينما شيرلوك هولمز حقق الخلود لأنه يمثل فكرة أكبر بكثير من مبدعه. حتى بعد وفاة آرثر كونان دويل عام 1930، تم تخليد هولمز بشكل يفوق خالقه. فعندما أرادت إدنبرة تكريم ابنها، لم تصنع تمثالًا للكاتب، بل صنعت تمثالًا للشخصية التي ابتكرها، شيرلوك هولمز. ونسي الناس ما كتبه دويل خارج عالم هولمز.
في استطلاع حديث، رأى الناس أن ونستون تشرشل شخصية خيالية، بينما رأوا شيرلوك هولمز شخصية حقيقية! لقد استطاع هولمز أن يمحو خالقه من الذاكرة الجماعية، ويستمر في العيش ومغامراته في أكثر من 120 رواية، بخلاف الأفلام والمسلسلات والقصص المصورة والمانغا.
الخيال الجيد خالد، والواقع الرتيب فاني. إن قصة شيرلوك هولمز هي تذكير بقوة الخيال وقدرته على تجاوز حدوده ليصبح جزءًا لا يتجزأ من وعينا الجمعي. فما رأيك في هذا المحقق الأسطوري؟
شاركنا رأيك في تعليق

تعليقات
إرسال تعليق